بقلم الدكتور راشد هشام
مقدمة:
إن اختيار كتاب: (صحيح البخاري نهاية أسطورة)
للصُّحفي المغربي رشيد أيلال من أجل مناقشة بعض ما جاء فيه من أفكار والتعليق عليها،
رغم مرور حوالي خمس أو ستّ سنوات عن زمن صدوره، له بكل تأكيد دواعيه الواقعية والفكرية
التي يمكن أن نجملها في أربعة أسباب؛ الأول: أهمية موضوع الكتاب الذي يدور حول قضية
من أهم قضايا الفكر الإسلامي وهي تدوين السنة النبوية وما استتبع ذلك من نقاش بين
علماء الإسلام، والسبب الثاني: ربط هذا النقاش العلمي الفريد الذي ميّز هذه الأمة بسِفر
ذي قيمة علمية وقامة وجدانية عند المسلمين وهو (الجامع المسند الصحيح المختصر من
أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه) لمؤلفه الشيخ المحدث محمد بن
إسماعيل البخاري المتوفى سنة 256 هـ، والسبب الثالث: ما أحدثه كتاب (صحيح البخاري
نهاية أسطورة) من ضجة في وسائل الإعلام وما ترتب عنها من مواقف متباينة وآراء
مختلفة بين مرحب ومحتف به، ومنكر لما جاء فيه مناوئ له، فكان لزاما على مفكري
الإسلامي المشتغلين بعلومه تولِّي الرد على ما جاء في هذا الكتاب من مثالب ونواقص،
والسبب الرابع: كشف منهجية الصحفي رشيد أيلال في قراءة تراثنا عموما وفي انتقاء
وتوجيه الروايات والأحداث الواردة في هذا الكتاب على وجه الخصوص.
بداية أود أن أنبه إلى أن النقاش الفكري لا يحط من
قيمة من حاول البحث والنقد كيفما كانت ثقافته أو مستواه سواء اتفقنا أو اختلفنا معه،
لذلك فكل الملاحظات حول كتاب (صحيح البخاري نهاية أسطورة) لن تخرج عن دائرة الفكر والأدب .. وربما نتفق مع المؤلف في عدم الجزم بصحة كل ما جاء في صحيح البخاري من
أحاديث، فلنا سلف في هذا الشأن كالدارالقطني من المتقدمين والألباني من المعاصرين،
لكننا بكل تأكيد نختلف معه منهجيا ومعرفيا في نقد الأحاديث النبوية.
أقول وبالله التوفيق كتابنا اليوم (صحيح البخاري
نهاية أسطورة) من الحجم المتوسط، منشور ورقيّا وإلكترونيا، مؤلفه صُحفي مغربي
معاصر يقدم نفسه بصفة باحثٍ في نقد التراث الديني، والنسخة التي أعتمد عليها في
مناقشة الأفكار وتقييد الملاحظات هي نسخة إلكترونية عن منشورات دار الأمان الطبعة
الأولى لسنة 2017.
إن منهجي في مناقشة أفكار كتاب (صحيح البخاري
نهاية أسطورة) يعتمد أولا على سوق كلام رشيد أيلال كما هو -دُونَ أيّ تدخل مني- مع
الإحالة على رقم الصفحة وربما الفقرة لتسهيل الرجوع إليها، ثم بعد ذلك أعلق على الفكرة
أو الأفكار المستهدفة والتي أحسب أنها خالفت المنهجية المعرفية في الطرح سواء كان
النقد بالتاريخ أو العقل والمنطق أو أقوال رجال الحديث فهم أهل الاختصاص والعمدة
في هذا الباب، وقد عنونت هذه الدراسة ب: (المقالة المنطورة في مناقشة صحيح البخاري
نهاية أسطورة) ووصف المقالة هنا بالمنطورة كناية على رعايتها وتعهدها بالزيادة والتصويب
كلما استجد في الموضوع ما يستدعي ذلك.
الملاحظة الأولى: حول عنوان الكتاب (صحيح البخاري نهاية أسطورة) وليس (الجامع الصحيح للبخاري نهاية أسطورة)؟
أول ملاحظة في هذه الدراسة ترتبط بعنوان الكتاب، تقول العرب (العناوين أنساب المضامين)، والأستاذ رشيد أيلال عندما اختار صيغة العنوان: (صحيح البخاري نهاية أسطورة) كان يتجه بالقارئ غير المختص إلى دائرة الترديد والشك من خلال اتهام البخاري بخلق وتلفيق أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن في نيته –حسب ما يبدو من تصميم الكتاب- توجيه الكتاب إلى البحث العلمي المبني على دراسة كتاب البخاري ونقد منهجه في جمع الأحاديث، لذلك جاءت فصول الكتاب الخمسة على النحو التالي: (الفصل الأول: آفة تدوين الحديث)، (الفصل الثاني: آفة علم الحديث)، (الفصل الثالث: أسطورة البخاري)، (الفصل الرابع: سقوط الأسطورة)، و(الفصل الخامس: من ألف صحيح البخاري؟)، فصول بعيدة كل البعد من فكرة ونية البخاري المعلنة في مقدمة الجامع الصحيح، ولو اختار رشيد أيلال العنوان الثاني (الجامع الصحيح للبخاري نهاية أسطورة) وهو الأولى والأنسب لأنه يتوافق مع اسم كتاب البخاري، لظهر لكل قارئ -منذ البدء- أن البخاري إنما قام بجمع الأحاديث المعلومة والمتداولة بين الناس في زمانه وفق منهجية علمية تلقاها العلماء بالقبول، ولألزمه –أي العنوان الثاني- تسطير (خطة إنجاز) تتأسس على عرض منهج البخاري في جمع السنة النبوية أسانيدا ومتونا، ثم له أن يعمل أدوات النقد إن كان يمتلكها، وهذا ما نسميه في علم المناهج ب: (الاستيعاب والتجاوز)، لكنَّ أستاذنا لم يفعل ذلك فكانت النتيجة عنوان غير دقيق وفصول باهتة ومثقلة بنقولات ..
كما أن حكم العنوان على الجامع الصحيح للبخاري بالأسطورة هو تجني معرفي كبير على وثيقة مادية في كامل عنفوانها، تنتظم في سلك التاريخ بشكل يتوافق مع كل أحداثه، وترتبط بالذاكرة حفظا وفهما وتطبيقا.
الملاحظة الثانية: آفة تدوين الحديث أم ظاهرة
تدوين الحديث؟
عمد الأستاذ رشيد أيلال في الصفحة 15 من كتاب
(صحيح البخاري نهاية أسطورة) إلى عنونةِ الفصلِ الأولِ: بـ: (آفة) تدوين
الحديث، واختار مصطلحَ (آفة) الذي يفيد إجمالا: (إفسادُ
أمرٍ لأمرٍ) كما جاء في الكليات للجرجاني: آفة: كلُّ عَرَضٍ يُفْسِد ما يصيبُ
من شيءٍ، وهنا أود أن أطرح السؤال التالي: ماذا أصابَ تدوينُ السُّنَةِ فأفسدَهُ؟
أقصدُ هنا فعلَ التدوينِ وليسَت علاقةُ السنةِ بالقرآنٍ، فهناك فرق كبير بينهما،
لأنَّ الوجودَ الماديَّ لعلاقةِ السنةِ بالقرآنِ ثابت ومتقدمٌ عن الوجود المادي للتدوين
بدليلِ وجودِ مدارسَ فقهيَّةٍ قبلَ الجامع الصحيحِ للبخاري بل قبل البخاري نفسه.
إذا فتدوين الأحاديث المتداولة بين الفقهاء وعموم
المسلمين في القرن الثالث الهجري لا يعدو إلا أن يكون أمرا طارئا كان موضوع اختلاف النظار
منذ زمن الصحابة إلى زمن التدوين، وبالتالي فنحن أمام ظاهرة حقيقية بالمفهوم
العلمي السوسيوثقافي للظاهرة وليست (آفة) كما يدعي الكاتب .. وكان حريّا بالأستاذ
رشيد أيلال عنونة الفصل بـ: ظاهرة تدوين الحديث، إلتزاما بموضوعية البحث في العلوم
الإنسانية ودفعا لمظنة الضغينة أو شبهة الإيديولوجية ..
الملاحظة الثالثة: الموضوعية في طرح الآراء أصبحت "سكيزوفرينيا"
في عرف رشيد أيلال.
قال رشيد أيلال في الصفحة 21: (يصيبني العجب
الممزوج بالحيرة، من العقلية التي يتمتع بها رواة الحديث ومدونوه ومحققوه الذين
يطلق عليهم اسم محدثون كيف أنهم يجيزون لأنفسهم تدوين هاته الأحاديث، وينبرون
للدفاع عنها، ويمحصون رجالها، ويدرسون أسانيدها، ويقعدون القواعد لمصطلح الحديث، ويكفرون من ينكرها، أو يفسقونه
أو يزندقونه في أفضل الظروف، وبعدها يطلعون بوجوههم الوقحة على الناس ليسردوا عليهم أحاديث وآثار في منع كتابة
وتدوين الأحاديث، في سكيزوفرينيا غريبة جدا، تحط من قدر هؤلاء عند ذوي العقل
الراجح، والفكر المستنير).
هذه الفقرة تضمنت سبا غير مبرر من طرف الكاتب وهو
فعل يجانب الموضوعية ويستحضر الخصومة في طرح الأفكار ويسلب الآخر المخالف حق
الوقار فعبارة "بوجوههم الوقحة" مُدخلة في النص بشكل فجّ لا تلبي إلا داعية الهوى وحظ النفس
وإلا كان بالإمكان حذفها والاستغناء عنها، وكذلك اتهام المحدِّثين بـ: (سكيزوفرينيا)
عندما نقلوا إلينا كل الأقوال المختلفة التي بلغتهم في موضوع كتابة الأحاديث سواء
بالمنع أو الإباحة هو أيضا تجن فاضح على أسلافنا الذين اختاروا الموضوعية والصدق والأمانة في
نقل كل الأقوال مهما تضاربت، ولك أن تفتح أي كتاب من الكتب العلمية كتب الخلاف العالي كتب التفاسير أو كتب الفقه وأصوله وكتب السير والمغازي وغيرها لتتأكد من ذلك، نعم اختار علماؤنا القدامى رحمة الله عليهم أن يتناولوا الموضوع الواحد من كل جوانبه وأن يعرضوا كل الآراء مهما اختلفت، كما اختاروا الرد على مخالفيهم بعد نقل أقوالهم بأمانة.
إذا ما تعتبره يا أستاذ رشيد مرضا سيكولوجيا هو
عند العلماء يسمى (موضوعية العلم والتجرد عن الذاتية) التي لا تميل إلى طمس الحقائق
أو إلى إقصاء الآخر..
الملاحظة الرابعة: بؤس الإيديولوجية؟
كما يعلم الجميع أن الإيديولوجية هي الإطار المغلق
الذي تفسر فيه كل الظواهر، والمفروض من كل الباحثين والأكاديميين التعامل مع
الإيديولوجية بالرفض، في كتاب صحيح البخاري نهاية أسطورة وتحت عنوان "عذر
أقبح من ذنب" ظهرت الإيديولوجية المتحاملة على الفقهاء والمحدثين بعد أن اتهمهم
رشيد أيلال بتلفيق التبريرات، فما هي التبريرات الواهمة والواهية حسب تقديره؟
قال الفقهاء والمحدثون إن منع كتابة الأحاديث
النبوية كان زمن نزول الوحي حتى لا يختلط بالقرآن، باعتبار هذه الأمة أمية حديثة
العهد بخبر السماء، وأن الجنوح إلى إباحة كتابة الأحاديث النبوية جاء بعد قدرة
المسلمين في صدر الإسلام على التمييز بينها وبين القرآن وهي مكنة لم تتأتى إلا بعد
حين، وأن التدوين تدبير اقتضته الظروف المستجدة ضرورة الحفاظ على سنة النبي صلى
الله عليه وسلم، وهذا التبين والإيضاح كاف وشاف للإجابة عن هذه الشبهات، وتبريرهم
بدهي تتلقاه العقول بالقبول، إلا عقل صاحبنا رشيد أيلال ومن حذا حذوه.